تدميرنا الثقافي الواقعي وجهود صغيرة لحفظ المتبقي

 

تابعتُ مثل آخرين سفر البعثة المصرية حاملة المعونة الى لبنان على متن طائرة حربية وإن كان هذا هو المرجو دائما من الشقيقة الكبرى مصر فالمأمول ان يتسع القرار السياسى لأكثر من ذلك خاصة أن فى موقف فنزويلا الكثير من العِبر . كما حاولت ان اتذكر- مع ما يحدث يوميا فى أراضينا العربية من تدمير كبير إن دفعنا نحن ثمنه معنويا فالأجيال القادمة سوف تدفع أثمانه مادياً- المقولة المعروفة التى درجنا على قولها لكنى للأسف لم اتذكرها حتى ذكرها لى الأستاذ يوسف القعيد " مصر تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ" ، مُشيرا الى أنها مقُولة للمرحوم الكبير لويس عوض معبرا عن مناخ الكتابة فى الستينيات، أى قبل نحو أربعين عاماً لا نحصد إلا يلاتها الآن. وربما كان الأكثر إيلاماً تذكرنا أيضاً لأن بيروت بمطبوعاتها الأنيقة كانت قِبلة للمثقف والقارئ العادى ؛ الأول كان يقتنى منها الكتب الممنوعة مثل رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ ، والثانى كان على يقين انه سوف يحصل على كتاب موثوق فيه شكلا ومضموناً. هذا فى الماضى الذى نعلم جيدا كم كان مثمرا حتى تلك الحملة الهمجية الإسرائيلية ، أما ما ينبغى الإشادة به أكثر فثلاثة أفعال أولها البيان الذى صدر عن مؤسسة “المورد الثقافي” ببيروت دعت فيه المثقفين والفنانين في العالم الى القيام بمسؤولياتهم الأخلاقية في الحفاظ على ثقافة لبنان. حيث اللحظة الحرجة التي يمر بها لبنان اليوم، التى تفرض على كل مثقفي العالم مسؤولية أخلاقية لا يمكن حصرها في العمل على وقف الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها الشعب اللبناني، وإنما يجب ان تمتد كذلك إلى التفكير في مبادرات جدية لنفض الذرائع والمبررات التي استخدمت لتبرير الهجوم الاسرائيلي على لبنان والسكوت عنه وذلك بدافع المسؤولية الأخلاقية والإنسانية ؛ مع مناشدة المؤسسات المعنية بالثقافة في العالم لحث أطراف النـزاع على الالتزام باتفاقيات اليونسكو لحماية التراث العالمي والثقافي في حالات النزاع المسلّح .ثم ما حدث فى مسرح المدينة ببيروت وكذلك فى المدرسة التبشيرية التى أقيم فيها معرضاً للجرافيك .
فى الأطفال عبرة
شارك أكثر من 100 طفل لبناني مشرد يحتمون في قبو مسرح المدينة ببيروت مع عائلاتهم، في ورشات عمل درامية ربما يمكن أن تساعدهم على التنفيس عن إحساسهم بالخسارة والغضب والخوف. قام الأطفال برسم لوحات وعمل أساور مطرزة إلى جانب مشاركتهم في عرض مسرحي حمل عنوان "الضحك تحت القصف" دار حول تجربتهم مع العدوان الإسرائيلي منذ حوالى شهر مما اضطرهم للهرب تاركين ديارهم وأصدقاءهم وألعابهم خلفهم.
رأيت عبر الفضائيات الطفل حسين حمود (11 عاما) الذي نزحت عائلته من الجنوب وشقت طريقها إلى بيروت عندما بدأ القصف، وهو يقول "إن المسرحية تلهيهم عن الحرب" مضيفا "ولا نستطيع أن نستمر في البكاء.. هكذا قد نتسلى وننسى".
وقد افتُتح العرض ومعظم أبطاله من المراهقين والكبار يوم الخميس الماضي متيحا للجمهور أن يصعد على خشبة المسرح الذي اكتظ بالرواد، فى نوع من التفاعل الذى ربما يشفي قدراً من الجروح ويتيح مجالا للناس كى يتحدثون مع بعضهم البعض.
أعجبنى قول الطفلة زينب جونة (7 أعوام) وهى من قرية حبوش الجنوبية : "كنت خائفة فى الطريق.. أتينا من طريق كانت تتعرض للقصف طوال الوقت، لم نرفع الرايات البيضاء على السيارة، شعرت بالملل والحزن لكننا الآن بدأنا نمثل وأنا سعيدة".
ظهر إن بعض الأطفال أصيبوا بالصدمة أكثر من غيرهم، لكن الكثير منهم كتموا مشاعرهم بداخلهم فأصبحوا في بعض الأحيان عصبيين وعدائيين، لكن فى كل الأحوال وجد الأطفال متنفسا لهم في دروس المسرح. وقد عمل الأطفال الأصغر سنا في عرض لمسرحية خاصة بهم عنوانها "الحقيبة" دارت –فى شكل فنتازى- حول حقائب تحاول أن تجد طريقا للعودة إلى لبنان من الخارج لكن الشرطة تلقي القبض على الحقائب وتفتحها لتجد في داخلها أطفالا يحاولون أن يعودوا إلى منازلهم .
وللتصميم والتعددية اللغوية مغزى
يدين النظام التربوي اللبناني في صيغته الحالية إلى عوامل متعددة شكّلته. فاللبنانيين مؤلّفون من جماعات دينية متعددة، بعضها مسيحي، تشمل بالدرجة الأولى الموارنة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وبعضها مسلم، تشمل السنة والشيعة والدروز. ولمعظم المدارس في لبنان طابع طائفي. وحيث إن إطار عمل المدارس يتخذ من هذه الجماعات أرضية له، فإنها تعزز تفاضلية الصهر الاجتماعي، وفصلاً طائفيا بين فئات الشعب اللبناني.
وقد أسس الناشط الاجتماعي اللبناني-الألماني المعروف سعيد أرناؤوط قبل نحو عشرة أعوام بالتعاون مع بعض الأصدقاء الألمان في جبال الشوف الواقعة جنوب بيروت، ملتقى "دار السلام" الألماني اللبناني الفريد من نوعه في لبنان نظراً لأنه يمتاز باستقلاله دينيًا وسياسيًا. ووسط الأحداث الجارية أقيم فى الملتقى معرضا للجرافيك ضم الكثير من الأنشطة بدءاً من تعريف التصميم الجرافيكي كعمليات متعاقبة لترجمة الشفهي والصامت إلى لغة بصرية وكبحث لتوسيع احتمالات إنتاج المعنى من خلال الطباعة والتصاوير والسرد والتشييد، حيث يصبح انتهاك الحدود حدثا يوميا. وعلى الطريقة الّتي يُبلّّغ بها التصميم الرسالة أن تأخذ طبيعتَها بعين الاعتبار، فضلاً عن الإحداثيات المرجعية البصرية للمتلقّين فإن المعرض بذلك قد ضرب مثلا يُحتذى به فى المصاعب . حيث اللغة البصرية و اتجهت إلى التواصل بين المرسل والمتلقي، شريطة أن يفهم كلاهما اللغة أو الشفرة نفسها ويتشاركا فيها.
وكان من أهم أهداف الملتقى إثبات أنه بمعزل عن كون اللغة ناقلا للثقافة والهوية فإن اللغة وسيلة تغذية ورعاية للثقافة والهوية ، حيث تشكل اللغة – إلى جانب الدين – الثقافة اليومية والأرضية الّتي رأى فيها الأنثروبولوجيون المنتج البشري المحدد لإثنية ما. و هي في صميمها مجموعة متكاملة من الأساطير والذكريات والرموز المهمة الضرورية لتشكيل إحساس بالانتماء.
وقد تعلمنا أن كل لغة تحمل على نحو ظاهر أو باطن عددا كبيرا من الذكريات والمشاعر والأحاسيس والانعكاسات. وتشكل طرق استيعاب المرء لبيئته الخارجية. وهي تحمل وراثيا النظم والنماذج المشكلة لبنية الثقافة المعنية، وتؤثر بذلك في طرق التفكير والحساسيات المرتبطة بهذه الثقافة التي تتخذ من هذه اللغة وسيطا. وربما كان التهجين الثقافي الذي يشهده لبنان قد أنتج أجيالاً لا تتشارك في تصورها لهويتها الثقافية بشكل عام، بل فى ثقافتها البصرية بشكل خاص.
ولأننا–خاصة فى تلك الأيام- نعيش في عصر باتت الهوية فيه تتخذ من الزمن إطارً مرجعياً لها ، فإن جملة مرجعيات المعرفة للهوية العربية باتت عشوائية تتغير وتتحوّل باطراد مع تعاقب الزمن والأحداث. وتتعولم وسائل الإعلام الّتي نتعرض لها بشكل يومي أكثر فأكثر، وتتعامل أقل فأقل مع المحلي في أبسط تعاريفه المتعارف عليها.
وقد كانت بيروت مستوعباً كبيراً قادراً على ضم مختلف الفنون، مما يعجز أي قانون للتصنيف بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، إنها صنف جديد قائم بحد ذاته، وهذا الصنف الجديد محدداً لثقافتنا البصرية .
بالنسبة للغة البصرية فى المعرض قامت نهلة قطب-إحدى العارضات- بتصوّر "جارجونت" وتصميمه، وهو مسرد بالمفردات اللغوية الهجينة التي يستخدمها البيارتة، مترافق مع تأويل بصري للوصف الصوتي المرتبط بها.
واستحضر عايدة صوبرا روح بيروت الستينات، من خلال رسم لصحيفة أسمتها "رتروبيروت" حيث تعرض لأدوات وممتلكات شخصية تعود إلى تلك الحقبة. وقارنت تميمة سلام صناعة الصور النمطية، لا سيما إنتاج المتعلقة منها بالعرب في الإعلام الأجنبي، بتوضيب الأمتعة وتغليفها. وعرضت بهيجة جارودي تصويرا جديدا (بورتريه) للجيل الناشئ اليوم، ملامساً مع قضية التمثيل البصري للبيئة اللبنانية السالفة مباشرة. أيضاً طرحت عليا نويهض قضية سياسية من خلال التصميم، عبر تطوير سرد متكامل عنوانه "من أجل القضية الفلسطينية". وفي الإطار نفسه اقترح وليد مهنا قراءة للثقافة الصناعية التي ظهرت في أوائل الثمانينات (في الأفلام من جانب فلسفى) من خلال نظريات دولوز وفوكو.
وصورت رانية بيطار فهمها لله ولما هو إلهي من خلال العناصر الأربعة:
الله كباعث للنور،
الله كحاضر في كل مكان، كالهواء.
الله كجاذب لنا .
الله كعنصر وجودى أساسي .
إن درجة تنوع الأعمال المصورة التى اظهرت براعة وقد تحدى فنانيها ما هي إلا انعكاس لتعددية الثقافات البصرية الحاضرة فى لبنان برغم ما يحدث . وبما يؤسس أشكالا جديدة للتعبير، مترابطة بعمق ببناء مجتمع لبنانى كان مستقبلي.
واليوم كلنا مسؤول عن توسيع حدود اللغة التى تعبر عن الرفض لما يحدث ، فى واقع يسوده قدر من جهل العربى بنفسه، ربما نصل بعد ذلك الى فهمٍ أعمق لسياقنا الاجتماعي العربى الذى يتدهور يوما بعد يوم علَّ هذا السياق يتغير بقدر ما . ومن ثم يبقى أنّ علينا أن نكون بمستوى هذا التحدي.