كلود سيمون والرواية الجديدة

حينما سئل الروائي كلود سيمون عن مصطلح الرواية الجديدة لم يكن متحمساً لتبني هذا المصطلح واعتبره كلمة مجنّحة يراد منها تفخيخ المعنى ، وأن ما أنجزه من إبداع روائي إنما كان ترجمة حرفية لرؤية مغايرة للواقع ولتداعيات الحدث اليومي ، ولم يكن مهتماً بنمط معين للكتابة الروائية ، بل هو التوق لإنتاج نص فيه من ثراء الخصوصية الفنية ما ينتمي إليه دون سواه ، ولم يكن متحمساً لفلسفة الخطاب الروائي التي من شأنها إغراق النص بالتأويل دون الخوض في تعرية المفردات التي تشكل بيئة الحدث ، والتي تؤدي إلى إنتاج دعائم الرؤية الجديدة للنص ، والمتمعن في كتابات سيمون الروائية يجد أن الحدث يتسع ويتشابك ضمن وحدة درامية متكاملة ، وإن بدا للوهلة الأولى كأنه نمو منقطع في دوائر سردية غير متصلة إلا ضمن الإطار العام للحدث ، فالجملة السردية تحتمل الكثير من الإنعطافات الزمانية والمكانية والإستغراق في تأسيس بيئات ناشطة ومؤثرة في تداعيات الحدث الكلي ، هذه البيئات تتصل بالمسرح الأساسي بثيمات تخضع للكثير من التأويل والكشف ، وتعكس الترابط المنطقي والسيميائي للأفكار إذا ما أراد لها أن تشارك في تفكيك جدلية معينة .

ينطلق كلود سيمون في تأثيث بيئة النص الروائي من إحداث إضطراب وصفي لحدث معين ، أي يجعل من الحدث سبباً لتداعيات متتالية تتداخل لغوياً لإنتاج نسيج متسلسل يمتد ليشمل مساحة النص الروائي ، ويكاد القارئ يشك بماهية الحدث الفعلي للرواية أو تشخيصه وفق رؤية تقليدية للتعامل مع هكذا نصوص ، وهذا لايعني أن القارئ يعاني من فقر الرؤية أو الإمكانية ، بل على العكس في الكثير من الأحيان يؤسس القارئ لرؤية تتجاوز رؤية النص ، إنما تشظي البيئات والأزمنة وتداخل الحوارات ضمن أنساق لغوية أفقية وعمودية تجعل من لحظة الإمساك بزمام القراءة والإكتشاف لحظة عصية في المحاولة القرائية الأولى ، وهذا ما ميز كتابات سيمون وعلى وجه الخصوص تلك المسحة التي تضفي نوعاً من الإحتفالية المتكررة في كل مقطع أو فصل من فصول الرواية .

وفي محاولة للكشف عن العلاقة بين كتابات كلود سيمون والرواية الجديدة ، نجد أن الكاتب لم يمهد أبداً لأسلوب محدد كي يصف به الرواية الجديدة مقارنة بالكتاب المعاصرين لتجربته الذين تبنّوا مجموعة شعارات تجلّت بشكل إعلانات وبينات أدبية تنظر وتؤسس لولادة مايسمى آنذاك بالرواية الجديدة ، فحقيقة تلك البيانات التبشيرية إنما كانت تتبنى مجموعة رؤى تدعوا إلى نبذ النموذج الروائي السائد والذي كان يوغل كثيراً في تدوين الحدث من خلال السرد التقليدي أو الواقعي المباشر الذي يميل إلى الفلسفية على حساب الجسد الفني للنص الروائي ، وكذلك تبني أفكار ورؤى أنتجتها ثقافة مجموعات أو طبقات لها سطوتها في المجتمع ، لذا فالشكل الذي طرحه كلود سيمون لم يكن مرتكزاً على تصورات مسبقة لتجربة أدبية معاصرة ، بل كان نتاجاً لرؤية ذاتية فيها الكثير من الجرأة والتجاوز للتقليدي والسائد من خلال محاولة جادة في أنتجة شكل فني فيه من الثراء والتدفق ما يجعله مميزاً في طرح رؤياه .

من خلال قراءة تحليلية لمسارات الحدث في نص كلود سيمون ، نجد أن الخطوط المرتبطة بالثيمة الرئيسية تمتد لتتصل بثيمات ثانوية متتالية ، والملفت للنظر أن التدفق اللغوي والتجسيد الوصفي لتلك الثيمات يتم معالجتهما بنفس القدر من الإهتمام بالثيمة الرئيسية ، هذه المعالجة تنتج مجموعة إنفعالات تكشف بوضوح العلاقة الجدلية مابين البؤرة الرئيسة للحدث والمحيط الزماني والمكاني ، إذ لايمكن لحدث أن ينمو ويتفاعل بمعزل عن المحيط ، وكلما كانت الجدلية بين الحدث وامتداده مجسدة ومؤثثة فنياً كلما كانت الرؤية المطروحة محتكمة على غنى فكري ومصداقية أكثر تأثيراً في ذاكرة القراءة التي تمثل الهاجس المباشر لرؤية النص ، وبطريقة أخرى يمكننا فهم العلاقة ما بين الكاتب والنص في لحظة الكتابة من خلال تصور القصدية في تدوين الحدث ، أي هل الكاتب يفكر بتدوين مشهد معين بنفس التركيز الذي يدون به المشاهد المرتبطة ؟ وهل الكاتب يقصد في معالجته لمجموعة حوادث تتصل فيما بينها ليعكس تصوراً أكثر وضوحاً عن حالة التداعي التي يمر بها في لحظة الكتابة ؟ هذه التساؤلات تجعلنا نتامل نص كلود سيمون بحذر وخوف أحياناً ، الخوف من لحظة التشظي والإنفلاتات الجامحة للغة التي يقتحم بها الكاتب لحظاته البكر ليزرع الهجس في مجموعة بيئات وأزمنة لا تني تنشغل بإستحالات وتداعيات مرصودة من قبل الكاتب الذي يحاول أن يؤسس من خلال خلخلة المشاهد ، والحذر من لحظة التماهي بعيداً في حقول لاتنتمي للنص ، وهذا بحد ذاته يسجل لكلود سيمون أثراً مميزاً في تأسيس مفهوم جديد للقراءة ، فبقدر ما يطرح آلية متماسكة في تناول الحدث وتدوينه يشير إلى تبني رؤية جديدة في التعامل مع النص الأدبي ، وهذا ما يميز النص الحداثي ، النص الذي يجسر لتدعيم حالة الوعي من خلال تطوير آليات التعامل مع النص .

فالعلاقة بين كلود سيمون والرواية الجديدة تكمن في طرح مجموعة مفاهيم أنتجها النص وليس العكس ، أي الرؤية التحديثية لسيمون تجلت في إنشغاله في إنتاج ما يفكر به في لحظة معينة بشكل متوازن من حيث المؤثرات البيئية والدوافع النفسية التي تساهم في تدوين الحدث ، وهذا شكل علامة بارزة في أدب كلود سيمون الذي أنتج مجموعة روايات تؤسس في مجملها حالة من الإنسجام في تدوين الرؤية العميقة للواقع من خلال نسج صورة متخيلة مغايرة تماماً لما يطرحه الأدب الكلاسيكي الذي استهلك مساحة كبيرة من الذاكرة الأدبية ، ويمكن تلخيص القول أن كلود سيمون كان حاذقاً لدرجة مرهفة في كيفية التعامل مع الحدث إبان فترة كانت تمثل قمة الإنهيار المفاهيمي في أوربا تحديداً خلال فترة ظهور النازية وإنهزام القوى الكنسية بكل طبقاتها ، وكان لابد من قراءة جديدة لواقع تتنازعه التيارات الفكرية المشفوعة برؤية ساخطة لواقع ممزق بتناقضاته .