رواية الأسر

كتبت عشرات الروايات بأقلام العراقيين عن الحرب العراقية الإيرانية، وأهوالها، لكن القليل من تلكم الروايات حظيت باهتمام النقاد الجادّين، وربما كان للإعلام الرسمي العراقي الدور الأكبر في التعتيم علي ذلك الأدب آنذاك، لتقريبه نفر من الكتاب معروفين بالتذبذب والنفاق والتلوّن والانتهازية، كتبوا وتسلموا المكافآت ونسوا الأمر كله، وهم الآن خارج وداخل العراق، بعيدون كل البعد عنه، وعن مشاكله، فإن كتبوا شيئاً جديداً كتبوه ليرضوا نفسياتهم المشوّهة الوضيعة الحائرة بين مدح الحكام الجدد، أو سبّ من مدحوه البارحة, وكما يحدث في عالم الاقتصاد إذ تقضي العملة الرديئة علي العملة الأصيلة، حدث للرواية العراقية التي عنيت بالحرب ومآسيها، حتي إذ طوي الزمن تلك الحرب بجراحاتها وآلامها طوي معها ما كُتب من أدب جيد، فضاع (اليابس والأخضر). ثم تطورت الأمور نحو الأسوأ بكارثة احتلال العراق، وسيطرة نخب الرذيلة والفساد والانحطاط والجريمة علي كل شيء بما فيه الحياة الأدبية.
علي أن أكبر ضحية للأدب العراقي قدّمت إلي مذابح العدم كانت رواية الأسر، فكلنا يعلم أن هناك أكثر مئة ألف عراقي وقعوا في الأسر، لكننا لا نعلم أن في هذا الكم الكبير من الأسري كتاباً ممتازين، كتبوا روايات فنية جيدة، لسبب ساذج يتلخص بوجود تعتيم مركّز علي مثل هؤلاء الأدباء وأدبهم، قبل وبعد الاحتلال لذا لم تُثر أيّ رواية أسر اهتمام ناقد أو كاتب أو دارس، ونتيجة لذلك الإهمال المهين والغبي لم تشتهر أيّ رواية من هذا الجنس المهم.
لكل هذا كان صدور كتاب الدكتور علي عزيز العبيدي (الرواية العربية في البيئة المغلقة. رواية الأسر العراقية، أنموذجاً.) نوعاً من إعادة الحق إلي نصابه كما يقول الأقدمون، أو إزالة الغبار عن أثر حيّ أريد له أن يموت. اهتم المشرعون في جميع أنحاء العالم بوضع قوانين وتوصيات وقرارات لحماية الأسير ورعايته وتوفير ظروف طبيعية لإقامته وتوفير الغذاء والدواء له، وإتاحة الفرصة له لقراءة الصحف المحلية، والكتب الأدبية والعلمية، (لأن الجندي الأسير فقد قابليته علي الإيذاء، وقدرته علي القتال، لذا انتهت ذريعة الاقتصاص منه إنسانياً وأخلاقياً ص23) لكن، هل طبقت تلك المبادئ علي الأسري العراقيين؟
حُشر الأسري العراقيون في زنزنات ضيّقة، خالية من نوافذ للتهوية (خصص لكل أسير شبرين وبضعة أصابع فقط) في مناطق صحراوية (صحاري الموت - معسكر أرك مخصوص) أو مناطق جبلية (ثلاجات الموت - معسكر رينا. ص 40) وتمّ عزل بعضهم عن بعضهم، وتصنيفهم فئات حسب أديانهم، ومذاهبهم، وقومياتهم، وقبائلهم الخ، ومنع اتصال أيّ فئة بأخري، وحرموا من الرعاية الصحية، وقدم لهم غذاء فاسد، وأجبروا علي شرب بولهم، أو ماء ملوثاً كان من نتائجه إصابة الكثير بـ ( مرض الإسهال الدموي: (الأميبا والشكلا ص 45) مما أدّي إلي موت العشرات: (محمد عليوي، رجب ظاهر البدري الخ، ص 320) وعرّضوا للتحقيق المستمر المدمّر لنفسياتهم، من ضرب وإهانة وأجبروا علي التعري في جوّ بارد متدنٍ درجة حرارته تحت الصفر، ودفنوا في الثلج، وعزلوا في زنزانات حديد محرقة في الصيف، وعذبوا باستعمال العصا الكهربية. لكن أقسي ما عوملوا به من وحشية كان: 1- لجوء السلطات المهيمنة علي معسكرات الأسر إلي التشهير والاغتصاب مما دفع بعض الأسري علي الانتحار (سمير السراج) و2- تغطيس الرأس بالمرافق الصحية حتي الموت. 3- فسخ الأسير بربطه بين سيارتين. 4- قتل الأسير بضربه علي المناطق الحساسة (نصيف حمد حسن). 5- تعرية السجين كليّة في مناطق جبلية باردة ليقضي الأسير نحبه بعذاب لا يوصف (نعيم فليح). 6- الرمي بالرصاص الحي (عبد القادر مجيد إبراهيم وبحر شاوي شذر مع ثلاثة عشر آخرين) 7- تثليج الأسير حتي التجميد ثم إجلاسه علي مدفأة نفطية تقضي عليه بعد دقائق ( عبد الله إمام) الخ.
ولعلّ أهم سؤال يدور في ذهن الإنسان الغر: لماذا يعذبّ الأسير؟ من حق المنتصر المسيطر علي الأسري أن يأخذ معلومات عامة عن الأسير كالرتبة، موقع الأسر، العمر، المنشأ، لكن ليس من حقّه حسب القانون الدولي أن يسأله عن مذهبه أو دينه أو قوميته أو أي شيء خاص به، كما ليس من حقه الطلب منه أن يتجسس علي رفاقه، أو التعهد للعمل ضد وطنه، أو الرضوخ لتغيير معتقده السياسي أو الديني، وقد التزمت دول كثيرة في الحرب العالمية الثانية وما بعدها بهذه المبادئ، لكن دولاً أخري لم تلتزم بها كإيران، ولعل ما يأتي دليل لا يقبل الشك علي سوء معاملة الأسير العراقي هناك.
يكشف هذه المعاملة الشائنة السيد خامنئي في إحدي خطبه (11.2. 83): مازال نفر من الأسري العراقيين يقاتلوننا بنفس الروح العدوانية التي كانوا يقاتلوننا بها في جبهات القتال، وقد أعددنا البرامج الكفيلة بترويضهم) وفي هذه الخطبة لا يشرح السيد خامنئي كيف يقاتل أسير أعزل من يأسره،
وهو لا يتوافر علي أي سلاح بينما يمتلك الآسر كل أنواع الأسلحة والنفوذ والسيطرة؟ وما هي الشراسة التي يتمتع بها أسير في قتاله وهو أعزل ضعيف جائع يعيش في أقسي حالة من الذل والهون والتعذيب؟
ماذا فعل هؤلاء المساكين العزل لكي يضع السيد خامنئي وحكومته برامج معدّة بعناية ودراسة ليستطيعوا بوساطتها ترويض الأسري؟
إذن فهناك خططاً غير مكشوفة لنا نحن الذين لم نتعرض إلي مثل هذه الإهانات المزرية، ولا نعرف أي شيء عن أسرانا، فيما كان اتحاد الأدباء عندنا وأجهزة إعلامنا وديناصوراتنا الأدبية المنفوخة بالهواء والهراء لاهية بتأليه رموز سطحية قادها حمقها إلي هدم الهيكل مع من فيه، وأوصل العراق والعراقيين إلي أسوأ حالة متواجدة في الكون كله.
إن هذه الظروف السيئة القاهرة هي الجوّ المثالي للروائي، ولابد أن يظهر وينبغ من بين أكثر من مئة ألف أسير عشرات يجيدون كتابة الرواية، وقد فعلوا فأين كتاباتهم؟ ومن سلط الضوء عليها؟ ومن حلّلها؟ ونقدها؟ أتختفي هذه الكتابة وتختفي معها آلام وأحزان ومعاناة هذا العدد الهائل من مواطنين أبرياء كانت جريمتهم الوحيدة أنهم سقطوا أسري في يد قويً وحشية متخلفة لم ترحمهم، ولم تراعِ أي قانون أرضي أو سماوي في معاملتهم! أما كان الأجدر بالسيد خامنئي أن يستعرض العشرات من أحاديث الرسول التي تحثّ علي معاملة الأسري بشكل حسن؟ وهو رجل الدين الأعلي منصباً في إيران؟
وفي معطي تتبع رواية الأسر نري: 1- بروز أدباء لم يعرفوا من قبل وما زالوا. 2- أنهم أنجزوا كتابة عشرات الروايات. 3- أنهم لم يعطوا حقهم ثالثا.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل نتناسي كتابتهم الآن؟
يذكر الدكتور عليّ أسماء الكثير من الروايات، منها علي سبيل المثال: إبراهيم الزيبق. عناوين في الذاكرة: محمود كاظم التميمي. شهداء بلا أكفان. علي عزيز العبيدي الخ.
في الكتاب المذكور حوادث مهمة ورائعة وملحمية حدثت في الأسر وتصلح أن تكون روايات خالدة، فحسبما يذكر الدكتور عليّ: إن كثيراً من الأسري قاموا بمحاولات هروب أذهلت "السافاك" أنفسهم، بسبب طبيعة التخطيط المتقن الذي خطط لها، والطرق والمسالك التي اختارها منفذو العمليات، والتي ادهشت الإيرانيين، لأنهم لا يملكون دراية بمواقع تلك الطرق في بلادهم، بحيث وصل بعض الأسري إلي حدود الاتحاد السوفياتي، وقطعوا الجبال والوديان، وهم لا يجيدون الفارسية، فهل استثمر أحدّ هذه الموضعات في رواية غير كتاب الأسر؟ (ص 368)، في وقت مازال الكتاب اليهود إلي حدّ الآن يكتبون عن أوضاعهم في الأسر أثناء الحرب الكونية الثانية.
إن هذا السفر الرائع عن أدب الأسر جهد هائل متميّز لكاتب عاني من قسوة ومرارة وذل الأسر في بيئة عدائية وغير إنسانية لأكثر من عشرين سنة، ونجا من أسره بأعجوبة وبعد عودته إلي الوطن كتب رواية عن الأسر ثم ثناها بهذا الكتاب ليساعدنا علي كشف مرارة آلام وأحزان ومعاناة الكائن العراقي الذي ابتلي بحروب ومآسي لا يد له فيها طيلة عقود، فعسي أن يلقي الكتاب ما يستحق من اهتمام والعراق الآن يرزح تحت ثاني أسوأ احتلال له في تاريخ جلجلته المضنية ومأساته الفظيعة ونكبته التي لا مثيل لها في العصر الحديث بين أمم الأرض.