الغياب في فضاء المحاكاة قراءة في فكر جان بودريار

يعد جان بودريار Jean Baudrillard ( 1929 – 2007 ) من أهم المؤولين للحظتنا المعاصرة في تعقيدها التكويني ، و التصويري ، و التفاعلي معا ؛ إذ يتداخل فيها الحقيقي بالمحاكاة ، و التشبيه ، كما يخرج التشبيه من حدوده النصية ، و البلاغية إلى اليومي ، و السياسي ، و الوجودي ، فيبدو في صيرورة الحقيقي نفسه ، و كأنه بذرة داخلية فاعلة من خلاله ، و ليست خارجة عنه .
هكذا تعمل الصورة في فكر بودريار من خلال مبدأ الخروج من هويتها ، لتبدو في حالتها الأولى كدال داخلي مغاير في الوجود الواقعي دون انفصال زائف عنه ، و من ثم تبدو المفاهيم المعرفية المنعزلة لدى بودريار نوعا من الخروج الذاتي المستمر في اتجاه كون بديل تعمل فيه التداخلات التفسيرية المرحة من خلال فاعلية التشبيه الكامن في الهوية المعرفية الأولي بوصفه تبديلا أساسيا في حدودها ، فالفن يمتد في نزوع الواقع نحو التمثيل الكامن في بنيته ، و دلالاته الحرفية ، و يمتد السياسي في استباق الصورة الحلمية التي تحاكيه ، و تناظر وقوعه في آن فتبدو كثورة داخلية فيه .
لا مكان إذا لعزلة الفن ، أو الفكر الاجتماعي عند بودريار ، لكنه التداخل ، و قبول التبديل الأصلي من خلال التشبيهات ، و المحاكاة في التكوين الوجودي ، و المدلول المعرفي معا ضمن حالة الخروج ، و تحطيم الحدود الداخلية من خلال التمثيل و بذوره الثورية الداخلية . تلك التي تحمل دائما معنى الخروج في فاعليتها الذاتية .
و لبودريار ممارسات تفسيرية تعزز من قبول جماليات التناقض في الأشياء الفريدة ، في نزوعها للخروج من الخطاب المتعالي للحداثة ضمن واقعها الحرفي نفسه ، و يرى بودريار أن الفراغ يعمل في مدلول الانتصاب المتعالي نفسه لفن العمارة في صورها الحداثية ، أي أن الأشياء تكتسب حضورها الفريد من خلال الغياب في صورتها الأخرى التي تفكك المدلول الأصلى في صيرورة تنحاز للتفكيك كحالة تكسب الشيء تميزه دون أن يكون للتميز شكل أحادي .
عقب قراءة بودريار تجد القراءة قد تحولت إلى تأويل يدخل النص في قلب الوجود كحدث مناظر ، و مشكل للتفاعل المفتوح بينهما . هذا التفاعل هو كون للحقيقي سواء أكان محاكاة ، أو دالا كونيا ، إذ يعرف كل منهما بالآخر في هذا الكون الفريد .
إن كتابة بودريار عابرة للأطر ، بل إنها ترصد الأطر في تجاوزها الطبيعي لحدودها باتجاه فراغ ، أو اختفاء لصلابة هذه الأطر السابقة مما يعزز من الانتشار الدلالي / الحقيقي للعلامات في المجال العابر لحدود الإطار ، لا بوصفه عدما ، و إنما بتغييبه لمركزية الظهور ، و الانفصال ، في اتجاه تكاثر الأثر ، و التباسه الأول بالاختفاء ، فمنهما معا تتحطم الحدود ، و يكون الشيء في حالة من التهيؤ لأن يظهر ، أو يترك أثرا يقاوم اكتمال الظهور دائما ؛ فيبدو فاعلا و لكن من خلال صورة أخرى تشبهه و تشكل وجوده معا.
و لبودريار آراء أساسية جددت التفكيك ، و ما بعد الحداثة ، و الفكر الراديكالي ، و الفنون ، و النظر إلى عنف العالم ، يمكننا تلمسها في أربعة نقاط تستدعي تأويلا ، و ممارسة مستمرة لمرح التداخلات التي يبدأ بودريار في الكشف عنها حال تحققها داخل النص ، و خارجه ، و هي :
أولا : التشبيه كانفجار ذاتي للعلامة :
يرى بودريار في كتابه ( التشبيهات ، و المحاكاة ) Simulacra and Simulation أن المحاكيات في عالمنا المعاصر تحاول أن تجعل الشيء يتزامن بنماذج محاكاته ، و من ثم فإن الشيء يختفي وفقا لهذه العملية ، مثلما ينهار انفصال الأرض عن الخريطة في قصة بورخيس بفعل المحاكاة ، و يرى أن عمليات المحاكاة لها طابعان ؛ نووي ، ووراثي Nuclear and Genetic ؛ إذ يتم إنتاج الشيء الحقيقي من الوحدات الصغيرة ، و بنوك الذاكرة ، كما يعاد إنتاجه وفقا للتضاعف في عدد غير محدد من المرات ، و في هذا التضاعف ردع للحقيقي بمضاعفاته ( راجع – Baudrillard-Simulacra and Simulation- Stanford University Press, 1988 – p 166-167 ) .
يبدو التشبيه عند بودريار ثوريا ، و ذاتيا في آن ، إذ ينفجر ضد ذاتيته الخاصة بالتضاعف ، و إعادة الإنتاج المبنية على النسخة ، أو الخريطة ، أو الصورة التي تبدو المحاكاة فيها استباقا ، أو تناظرا يلازم تكوين الشيء و يغريه بالخروج عن منطق البنية الواقعية المستقرة ، و في الوقت نفسه لا يجعل من المحاكاة أصلا بديلا ، لأنها تكمن في قلب العلامة الحقيقية ، و بهذا الصدد أرى أن التشبيه عند بودريار يعمل بصورة سردية ديناميكية ، تفسر التكاثر المعاصر للصور حين تتهيأ في علاقتها التناظرية بالعلامة ، و الوجود لإنتاج واقع مجازي ، أو مجاز واقعي فائق يتجاوز مركزية الانعزال السابق للأصل ، أو الصورة .
إن اختفاء الشيء عند بودريار هو البديل عن مركزية انتصابه ، وقد بدا كجزء يتضاعف بالمحاكاة من الشيء ، فصار الاختفاء جزءا ثوريا من الحقيقة .
و أرى أن حركة التداخل المعقد السابقة التي ميزت لحظتنا الراهنة لدى بودريار ، قد أعيد إنتاجها في الفلسفة ، و النظرية الاجتماعية ، و مفهوم الثقافة ، فقد صارت الأشياء التي تنتمي ظاهريا للمفاهيم السابقة في حالة محاكاة تأويلية مضادة لهذا الانتماء ، و ذلك بتحطيم الحدود من جهة ، و المشاركة في إنتاج معنى وجودي فريد من ناحية أخرى من داخل الثورة الذاتية للمفهوم كنقطة للبداية .
وقد شارك التشبيه في إنتاج محاكاة للمدلول ، و هي التفسير المتجدد له وفق تغيرالهوية من خلال طاقة هذا التشبيه .
إن المحاكاة لدى بودريار آلية عمل حقيقية ، و سردية ، و تشبه اللاوعي في حركيتها الإبداعية المستمرة ، و أتفق هنا مع دوجلاس كلنر Douglas Kellner ، و هو من أهم دارسي بورديار – في أن الكون عند بودريار يبدو جريانا بلا حدود ، فالامتيازات التي منحت للفلسفة ، و السياسة ، و المجتمع الرأسمالي تنفجر في تدفق التشبيهات ( راجع – Douglas Kellner – Boundaries and Borderlines )
يحمل التشبيه إذا بذور انقلاب الحدود ، من خلال تكاثره الذي ميز من قبل هذه المفاهيم ، و عزز من خروجها التصويري الأساسي من هويتها . و أضرب هنا مثالين كان بودريار قد ذكرهما في ( التشبيهات ، و المحاكاة ) أحدهما سقوط القوة في الطلب الجماعي لإشاراتها خوفا من الانهيار ، أي أن الطلب هوس بموتها ، و بقائها في آن ، و الآخر تضاعف العمل في كثرة الإشارات إلى سيناريو العمل ، و إرادة مضاعفته .
الطلب المقدس للقوة عند بودريار يختفي في الأثر ، و هو التشبيه المتكرر ببقائها كبديل عن حضورها المطلق المهدد بالغياب ، أما تصوره لسيناريو مضاعفة العمل ؛ فهو أقرب لحلول الشكل القصصي في الوجود ، إنه يشبه ثورة للسرد كدال مضاف في عملية العمل ، و علاقات الاستغلال .
ثانيا : الفن باتجاه الحرفية التمثيلية :
في حديث بودريار عن الفن تحول جذري باتجاه الحرفية التمثيليةLiterality أو ما يصفه هو في حوار له بفقدان الفن لموقعه التقليدي كطلب رمزي للثقافة ، فقد صار ضمن حرفية الحقيقة ، و في الواقع الفائق Hyper Reality ، و هذه الحالة الأخيرة لا تمثل تطورا للفن ، بل التفافا نحو الداخل ؛ إذ يقر بودريار بأن طلب الثقافي كان من قبل وهما ، لكننا الآن فقدنا هذا الوهم في تلك الحرفية الواقعية الجديدة التي تعتبر الشيء فريدا ، و المحاكاة حقيقة متضمنة دون طلب يكرس لانعزال الثقافي عن الحرفي / التمثيلي بحد ذاته ( راجع – Baudrillard- Between Difference and Singularity - discussion with Schirmacher )
و من فقدان الوهم السابق لدى بودريار يبدع الفن مثوله فيما يشبه الثقافي ، و يقاومه ألا و هو الواقع الحرفي بما فيه من تمثيل ، و تشبيهات ، و أرى أن تحليل هذه النقطة يضع أيدينا على نقطتين في غاية الأهمية :
الأولى : أسبقية التداخل بين الفن ، و ما يتجاوز الثقافي ، و لكن الوعي بالتداخل هو ما ميز اللحظة الراهنة ، و هو ما يمنح التشبيه اتساعا في تكوين الرؤية .
الثانية : الالتفاف الذاتي للفن ينطوي على تفكيك ، و تأويل الأعمال السابقة و ذلك بإسقاط طلبها الأساسي للثقافة ، و انفتاح حدود المحاكاة ، إلى ما يتجاوزها من ثراء دلالي كامن فيها كواقع متجدد ، كما يجعل من الواقع الحرفي تمثيلا يتجاوز ما بعد الحداثة من داخلها ، لأنه يقبل الموضوع حرفيا لكن في مجال من التمثيل ، و تكاثر نماذج محاكاته ، أي في احتمال غيابه أيضا ، و كانت فنون ما بعد الحداثة ترتكز على تفكيك الأصل ضمن العمل نفسه ، لكن بودريار يتصور الموضوع الحرفي و قد بدا في حالة تشبيه .
ثالثا : فوتوغرافيا الاختفاء :
تحدث بودريار عن بعض ممارساته للفوتوغرافيا في ترجمتها المادية للغياب الكامن في موضوع الصورة ، فقال عن لقطة السيارة الغارقة في المياه ، و الكرسي الفارغ ، أنهما تعبران عن الشكل الافتراضي للجسم الذي لم يعد هناك .
و قد شاهد بعض لقطات فوتوغرافية لبودريار علي الويب ، منها :
1 – لقطة يبدو فيها الكرسي فارغا ، عليه ملاءة حمراء ، تمثل الأثر ، أو التكوين في ثورته التشبيهية على حضوره المركزي المطلق كما هو في الفوتوغرافيا التقليدية ، هل هو تفجير للموضوع للاحتفاظ بطاقة الأثر المدمرة للحدود من داخل تعيينها في لحظة اختفاء ، لا زوال .
2 – لقطة تصور حدودا طباشيرية للبشر على الحائط دونما امتلاء ، و كأن الحدود تنطوي على فراغ ثوري يشكل طاقتها الخفية ، هل هو القوة في مجال التكوين العابر للحدود ؟ أم أنه التشبيه حال ظهوره كبديل عن المركز ؟
3 – لقطة يبدو فيها الباستيل مقلوبا في كأس على منضدة ، و كأن النسخة البديلة عن الموضوع توشك أن تحطم التعالي ، و الانتصاب في فراغ الكأس ، و التشبيه معا .
رابعا : شكلية العنف العالمي ، و ذاتيته :
يرى بودريار أن حضارة التعميم الإنساني المعاصرة قد استولدت عدوا من داخلها ، لأنها لا تملك عدوا مناظرا ، و من ثم كان عنف العالمي يعمل لإقامة عالم متحرر من كل نظام طبيعي ، سواء أكان نظام الجسد ، أو الجنس ، أو الولادة ، أو الموت ، و هو عنف جرثومي يعمل بالعدوى ، برد فعل متسلسل ، و يتخذ مظاهر مزاجية ، و عصابية ، و لا عقلانية مقارنة بعصر التنوير ، كما يتخذ صورا جماعية إثنية ، و لغوية ( راجع / بودريار / روح الإرهاب / ترجمة / بدر الدين عرودكي / المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة 2005 ص 74 و 75 ) .
لقد اختلط العنف عند بودريار بمحاكاته ضمن سلسلة تجمع بين الذاتية ، و التفاعلية ، أو ما يسميها بالبورنوجرافيا التي تدل على التبادلات المتكررة للجنس ، و العنف معا بصورة يعمل فيها العنف مع طغيان العالمي في وقت واحد ، إنها حالة من التلازم العبثي ، و التي أرى أنها تلتف حول تداعيات الكتابة في وجودها خارج الحدود .

خاص – القدس العربي – السبت ، و الأحد 7 و 8 أبريل 2007.